ولا ريب أنه لآل محمد   - صلى الله عليه وسلم - حقا على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم  ، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش  ، كما أن قريشا  يستحقون 
[1] من المحبة والموالاة ما لا يستحقه غير قريش  من القبائل ، كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم   . وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم ، وفضل قريش  على سائر العرب ، وفضل بني هاشم  على سائر قريش   . وهذا هو المنصوص عن الأئمة  كأحمد  وغيره . 
والنصوص دلت على هذا القول 
[2] ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في [ الحديث ] الصحيح : 
[3]  " إن الله اصطفى قريشا  من كنانة  ، واصطفى بني هاشم  من قريش  ، واصطفاني من بني هاشم   " 
[4]  . وكقوله في [ الحديث ] الصحيح : 
[5]  " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ; خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا  " 
[6] ، وأمثال ذلك . 
 [ ص: 600 ] وذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأجناس . وهذا قول طائفة من أهل الكلام ، كالقاضي أبي بكر بن الطيب  وغيره ، وهو الذي ذكره  القاضي أبو يعلى  في المعتمد . وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية  
[7] ، وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع ، كما بسط في موضعه ، وبينا أن تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد ، كما أن تفضيل القرن الأول  على الثاني والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك ، بل في القرن الثالث من هو خير 
[8] من كثير من القرن الثاني . 
وإنما تنازع العلماء : هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم ؟  على قولين . ولا ريب أنه قد ثبت اختصاص قريش  بحكم شرعي  ، وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم . وثبت اختصاص بني هاشم  بتحريم الصدقة عليهم  ، وكذلك استحقاقهم من الفيء عند أكثر العلماء ، وبنو المطلب  معهم في ذلك ، فالصلاة عليهم من هذا الباب ، فهم مخصوصون بأحكام لهم وعليهم ، وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلا صالحا ، بل كان عاصيا . 
وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ، ومدح الله عز وجل للشخص المعين ، وكرامته عند الله تعالى - فهذا لا يؤثر فيه النسب ، وإنما  [ ص: 601 ] يؤثر فيه الإيمان والعمل الصالح ، وهو التقوى . كما قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم   ) . 
و [ قد ثبت ] في الصحيح أن النبي 
[9]  - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الناس أكرم ؟  فقال : " أتقاهم " . فقالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " فيوسف  نبي الله ابن يعقوب  نبي الله ابن إسحاق  نبي الله ابن إبراهيم  خليل الله " قالوا : ليس عن هذا نسألك . قال : " أفعن معادن العرب تسألوني ؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا  " 
[10]  . 
و [ ثبت عنه ] في الصحيح 
[11] أنه قال : " من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه  " رواه  مسلم  
[12]  . 
ولهذا أثنى الله في القرآن على [ السابقين الأولين من ] المهاجرين  
[13]  [ ص: 602 ] والأنصار  ، وأخبر أنه رضي عنهم ، كما أثنى على المؤمنين عموما . فكون الرجل مؤمنا وصف استحق به 
[14] المدح والثواب [ عند الله ، وكذلك كونه ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وصف يستحق به المدح والثواب ] 
[15]  . ثم هم متفاوتون في الصحبة ، فأقومهم بما أمر الله به ورسوله في الصحبة ، أفضل ممن هو دونه ، كفضل السابقين الأولين على من دونهم ، وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . ومنهم أهل 
[16] بيعة الرضوان  ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، وهؤلاء لا يدخل النار منهم أحد ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [17]  . 
وأما نفس القرابة فلم يعلق بها ثوابا ولا عقابا ، ولا مدح [ أحدا ] 
[18] بمجرد ذلك ، وهذا لا ينافي ما ذكرناه من أن بعض الأجناس والقبائل أفضل من بعض ، فإن هذا التفضيل معناه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا  " ، فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة ، كان معدن الذهب خيرا ، لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فيه ، فإن قدر أنه تعطل ولم يخرج ذهبا ، كان ما يخرج الفضة أفضل منه . 
فالعرب في الأجناس ، وقريش  فيها ثم هاشم  في قريش  مظنة أن يكون فيهم من 
[19] الخير أعظم مما يوجد في غيرهم . ولهذا كان في بني هاشم  النبي  [ ص: 603 ]  - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يماثله أحد في قريش  ، فضلا عن وجوده في سائر العرب [ وغير العرب ] 
[20] ، وكان في قريش  الخلفاء الراشدون وسائر العشرة  وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب ، وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس . 
فلا بد أن يوجد في الصنف الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول ، وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل . كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذين ليسوا بأنبياء ، والمؤمنون المتقون من غير قريش  أفضل من القرشيين  الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى ، وكذلك المؤمنون المتقون من قريش  وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم   . 
فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب دون من ألغى فضيلة الأنساب 
[21] مطلقا ، ودون من ظن أن الله تعالى يفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في الإيمان والتقوى ، فضلا عمن هو أعظم إيمانا وتقوى . فكلا القولين خطأ ، وهما متقابلان . بل الفضيلة بالنسب 
[22] فضيلة جملة ، وفضيلة لأجل المظنة والسبب ، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية ; فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة ، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد . والثاني : يفضل به لأنه الحقيقة والغاية 
[23] ، ولأن كل من كان أتقى  [ ص: 604 ] لله كان أكرم عند الله ، والثواب من الله يقع على هذا ، لأن الحقيقة قد وجدت ، فلم يعلق الحكم بالمظنة ، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه ، فلا يستدل بالأسباب والعلامات . 
ولهذا كان رضا الله عن السابقين الأولين أفضل من الصلاة على آل محمد  ، لأن ذلك إخبار برضا الله عنهم ، فالرضا قد حصل ، وهذا طلب وسؤال لما لم يحصل 
[24]  . ومحمد   - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر الله [ عنه ] 
[25] أنه يصلي عليه هو وملائكته بقوله : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي   ) [ سورة الأحزاب : 56 ] فلم تكن فضيلته بمجرد كون الأمة يصلون عليه ، بل بأن الله تعالى وملائكته يصلون عليه بخصوصه ، وإن كان الله وملائكته يصلون على المؤمنين عموما ، كما قال تعالى : ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور   ) [ سورة الأحزاب : 43 ] ، ويصلون على معلمي 
[26] الناس الخير ، كما في الحديث : " إن الله وملائكته يصلون على معلمي 
[27] الناس الخير  " 
[28]  . 
 [ ص: 605 ] فمحمد  
[29]  - صلى الله عليه وسلم - لما كان أكمل الناس فيما يستحق به الصلاة من الإيمان وتعليم الخير وغير ذلك ، كان له من الصلاة عليه خبرا 
[30] وأمرا ، خاصية لا يوجد [ مثلها ] 
[31] لغيره - صلى الله عليه وسلم - . 
فبنو هاشم  لهم حق وعليهم حق  ، والله تعالى إذا أمر الإنسان بما لم يأمر به غيره ، لم يكن أفضل من غيره بمجرد ذلك ، بل إن امتثل ما أمر الله به كان أفضل من غيره بالطاعة ، كولاة الأمور وغيرهم ممن أمر بما لم يؤمر به غيره : من أطاع منهم كان أفضل ، لأن طاعته أكمل ، ومن لم يطع منهم كان من هو أفضل منه في التقوى أفضل منه . ولهذا فضل الخلفاء الراشدون على سائر الناس  ، وفضل من فضل من أمهات المؤمنين على سائر النساء ; لأن الله أمر الخلفاء بما لم يأمر به غيرهم ، فقاموا من الأعمال الصالحة بما لم يقم غيرهم بنظيره ، فصاروا أفضل . وكذلك أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله لهن : ( من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا  ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما   ) [ سورة الأحزاب : 13،30 ] وهن - ولله الحمد 
[32]  - قنتن لله ورسوله وعملن صالحا ، فاستحققن الأجر مرتين ، فصرن أفضل لطاعة الأمر ، لا لمجرد الأمر . ولو قدر - والعياذ بالله - أن واحدة تأتي بفاحشة مبينة 
[33] لضوعف لها العذاب ضعفين . 
 [ ص: 606 ] وقد روي عن  علي بن الحسين  أنه جعل هذا الحكم عاما في آل البيت ، وأن عقوبة الواحد منهم تضاعف ، وتضاعف حسناته ، كما تضاعف العقوبة والثواب على من كان في المسجد الحرام ، وعلى من فعل ذلك في شهر رمضان 
[34] ، ونحو ذلك . 
وهذا كله مما يبين أن كرامة الله تعالى [ لعباده ] 
[35] إنما هي بالتقوى فقط . كما في الحديث الذي في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود 
[36] على أبيض ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى . الناس من آدم  وآدم  من تراب  " 
[37]  . 
وقال : " إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس رجلان : : مؤمن تقي ، وفاجر شقي  " 
[38]  . 
فالصلاة على آل محمد  حق لهم عند المسلمين ، وذلك سبب لرحمة الله تعالى لهم بهذا النسب 
[39] ، لأن ذلك يوجب أن يكون كل واحد من بني  [ ص: 607 ] هاشم  لأجل الأمر بالصلاة عليه تبعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ممن لم يصل عليه . ألا ترى أن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم   ) [ سورة التوبة : 103 ] . 
وفي الصحيحين عن ابن أبي أوفى  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه بصدقتهم صلى عليهم ، وإن أبي أتاه بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى    " 
[40]  . 
فهذا فيه إثبات فضيلة لمن صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن كان يأتيه بالصدقة ، ولا يلزم من هذا أن يكون كل من لم يأته بصدقة 
[41] لفقره دون من أتاه بصدقة 
[42] وصلى عليه ; بل قد يكون من فقراء المهاجرين الذين ليس لهم صدقة يأتونه بها من هو أفضل من كثير ممن أتاه بالصدقة وصلى عليه ، وقد يكون بعض من يأخذ الصدقة أفضل من بعض من يعطيها ، وقد يكون فيمن يعطيها أفضل من بعض من يأخذها ، وإن كانت اليد العليا خيرا من اليد السفلى . 
فالفضيلة بنوع لا تستلزم أن يكون صاحبها أفضل مطلقا . ولهذا كان في الأغنياء من هو أفضل من جمهور الفقراء ، وفي الفقراء من هو أفضل من  [ ص: 608 ] جمهور الأغنياء ; فإبراهيم  وداود  وسليمان  ويوسف  وأمثالهم أفضل من أكثر الفقراء ، ويحيى  وعيسى  ونحوهما أفضل من أكثر الأغنياء . 
فالاعتبار العام هو التقوى ، كما قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم   ) . فكل من كان أتقى كان أفضل مطلقا ، وإذا تساوى اثنان في التقوى استويا في الفضل ، سواء كانا - أو أحدهما - 
[43] غنيين أو فقيرين ، أو أحدهما غنيا والآخر فقيرا ، وسواء كانا - أو أحدهما - 
[44] عربيين أو أعجميين ، أو قرشيين أو هاشميين ، أو كان أحدهما من صنف والآخر من صنف آخر . وإن قدر أن أحدهما له من سبب الفضيلة ومظنتها [ ما ليس للآخر ] 
[45] ، فإذا كان ذاك [ قد ] 
[46] أتى بحقيقة الفضيلة كان أفضل ممن لم يأت بحقيقتها ، وإن كان أقدر على الإتيان بها ، فالعالم خير من الجاهل ، وإن كان الجاهل أقدر على تحصيل العلم ، والبر أفضل من الفاجر ، وإن كان الفاجر أقدر على البر ، والمؤمن الضعيف خير من الكافر القوي ، وإن كان ذاك يقدر على الإيمان أكثر من المؤمن القوي . وبهذا تزول شبه كثيرة تعرض في مثل هذه الأمور 
[47]  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					