( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم    ) 
قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم    ) 
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد  عليه الصلاة والسلام ، أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد    - صلى الله عليه وسلم - وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه ، وهذا هو النوع الأول من هذا الباب ، وههنا مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا    ) في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن . قال  ابن عباس    : وكان يخاطب في التوراة بقوله : " يا أيها المساكين " فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولا بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخرا حيث قال : ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة    )   [ ص: 203 ]   [ البقرة : 61 ] . 
وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولا فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة ، وأيضا فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات ، فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات ، فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات . 
المسألة الثانية : أنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من أحدهما ، ويأذن في الأخرى ، ولذلك فإن عند  الشافعي    - رضي الله عنه - لا تصلح الصلاة بترجمة الفاتحة  ، سواء كانت بالعبرية أو بالفارسية ، فلا يبعد أن يمنع الله من قوله : ( راعنا    ) ويأذن في قوله : ( انظرنا    ) وإن كانتا مترادفتين ، ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله : ( راعنا    ) لاشتمالها على نوع مفسدة ، ثم ذكروا فيه وجوها : 
أحدها : كان المسلمون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا عليهم شيئا من العلم : راعنا يا رسول الله ، واليهود  كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة ، وهي " راعينا " ، ومعناها : اسمع لا سمعت ، فلما سمعوا المؤمنين يقولون : راعنا افترضوه وخاطبوا به النبي ، وهم يعنون تلك المسبة ، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى ، وهي قوله : ( انظرنا    ) ، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في سورة النساء : ( ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين    ) [ النساء : 46 ] ، وروي أن  سعد بن معاذ  سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه ، فقالوا : أولستم تقولونها ؟ فنزلت هذه الآية . 
وثانيها : قال قطرب    : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز  ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية ، فلا جرم نهى الله عنها . 
وثالثها : أن اليهود  كانوا يقولون : راعينا ، أي : أنت راعي غنمنا ، فنهاهم الله عنها . 
ورابعها : أن قوله : " راعنا " مفاعلة من الرعي بين اثنين ، فكان هذا اللفظ موهما للمساواة بين المخاطبين ، كأنهم قالوا : أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا ، فنهاهم الله تعالى عنه ، وبين أن لا بد من تعظيم الرسول عليه السلام في المخاطبة على ما قال : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا    ) [ النور : 63 ] . 
وخامسها : أن قوله : " راعنا " خطاب مع الاستعلاء ، كأنه يقول : راع كلامي ولا تغفل عنه ، ولا تشتغل بغيره ، وليس في " انظرنا " إلا سؤال الانتظار ، كأنهم قالوا له توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه . 
وسادسها : أن قوله : " راعنا " على وزن عاطنا من المعاطاة ، ورامنا من المراماة ، ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية ، وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحمق ، فالراعن اسم فاعل من الرعونة ، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر . كقولهم : عياذا بك ، أي أعوذ عياذا بك ، فقولهم : راعنا : أي فعلت رعونة . ويحتمل أنهم أرادوا به : صرت راعنا ، أي صرت ذا رعونة ، فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة . 
وسابعها : أن يكون المراد لا تقولوا قولا راعنا ، أي : قولا منسوبا إلى الرعونة ، بمعنى راعن : كتامر ولابن . 
أما قوله تعالى : ( وقولوا انظرنا    ) ففيه وجوه : 
أحدها : أنه من " نظره " أي : انتظره ، قال تعالى : ( انظرونا نقتبس من نوركم    ) [ الحديد : 13 ] فأمرهم تعالى بأن يسألوه الإمهال لينقلوا عنه ، فلا يحتاجون إلى الاستعادة . فإن قيل : أفكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجل عليهم حتى يقولوا هذا ؟ فالجواب من وجهين : 
أحدهما : أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام ، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه : اسمع أو سمعت . 
الثاني : أنهم فسروا قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به    ) [ القيامة : 16 ] أنه - عليه السلام - كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل    - عليه السلام - حرصا على تحصيل الوحي وأخذ القرآن ، فقيل له : " لا   [ ص: 204 ] تحرك به لسانك لتعجل به " ، فلا يبعد أن يعجل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصا على تعجيل أفهامهم ، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام . 
وثانيها : " انظرنا " معناه : انظر إلينا ، إلا أنه حذف حرف " إلى " كما في قوله : ( واختار موسى قومه    ) [ الأعراف : 155 ] والمعنى : من قومه ، والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إيراده للكلام على نعت الإفهام والتعريف أظهر وأقوى . 
وثالثها : قرأ  أبي بن كعب    : " أنظرنا " من النظرة ، أي : أمهلنا . 
أما قوله تعالى : ( واسمعوا    ) فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر ، فلا يجوز وقوع الأمر به ، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة : 
أحدها : فرغوا أسماعكم لما يقول النبي - عليه السلام - حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة . 
وثانيها : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم سماع اليهود  ، حيث قالوا : سمعنا وعصينا . 
وثالثها : اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدا عليهم ، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم ، إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول ، ومعنى " العذاب الأليم " قد تقدم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					