المسألة الثانية : اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر ، فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو ؟ ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر .   [ ص: 36 ] 
أما المقام الأول : في بيان أن الخمر ما هو  ؟ قال  الشافعي  رحمه الله : كل شرب مسكر فهو خمر ، وقال  أبو حنيفة    : الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد . 
حجة  الشافعي  على قوله وجوه : 
أحدها : ما روى أبو داود  في "سننه" : عن  الشعبي  عن ابن عمر  رضي الله عنهما ، قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والحنطة ، والشعير ، والذرة  ، والخمر ما خامر العقل ، وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه : 
أحدها : أن عمر  رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير ، كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر ، وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمرا . 
وثانيها : أنه قال : حرمت الخمر يوم حرمت ، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمر ، وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة . 
وثالثها : أن عمر  رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب ، ولا شك أن عمر  كان عالما باللغة ، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره . 
الحجة الثانية : روى أبو داود  عن  النعمان بن بشير  رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العنب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا ، وإن من البر خمرا ، وإن من الشعير خمرا   " والاستدلال به من وجهين : 
أحدهما : أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر ، فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر . 
والثاني : أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات ، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها ، أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب ، فوجب أن يكون ثابتا في هذه الأشربة ، قال الخطابي  رحمه الله : وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها ، وإنما جرى ذكرها خصوصا ؛ لكونها معهودة في ذلك الزمان ، فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة ، فحكمها حكم هذه الخمسة ، كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها . 
الحجة الثالثة : روى أبو داود  أيضا عن نافع  عن ابن عمر  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام    " قال الخطابي    : قوله عليه السلام : " كل مسكر خمر   " دل على وجهين : 
أحدهما : أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها ، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر ، وكان مسمى الخمر مجهولا للقوم حسن من الشارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية ، أو على سبيل أن يضع اسما شرعيا على سبيل الإحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما . 
والوجه الآخر : أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة ; وذلك لأن قوله هذا خمر ، فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمرا ، فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازا على المشابهة في الحكم ، الذي هو خاصية ذلك الشيء . 
الحجة الرابعة : روى أبو داود  عن  عائشة  رضي الله عنها أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع ، فقال : "كل شراب أسكر فهو حرام" قال الخطابي    : البتع شراب يتخذ من العسل  ، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة  ، وإفساد لقول من قال : إن القليل من المسكر  مباح ; لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس ، فيدخل فيه القليل والكثير منها ، ولو كان هناك تفصيل في شيء   [ ص: 37 ] من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله . 
الحجة الخامسة : روى أبو داود  عن  جابر بن عبد الله  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام   " . 
الحجة السادسة : روي أيضا عن القاسم  عن  عائشة  ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام    " قال الخطابي    : " الفرق" مكيال يسع ستة عشر رطلا ، وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب . 
الحجة السابعة : روى أبو داود  عن  شهر بن حوشب  ، عن  أم سلمة  ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر ، قال الخطابي    : المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء  ، وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة ، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر ، وهو حرام . 
				
						
						
