باب من يبدأ به في النفقة عليه قال الله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين  الآية . فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق ، والجواب صدر عن القليل ، والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة  ، فقال تعالى : قل ما أنفقتم من خير  فذاك يتناول القليل ، والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه الله ، وبين فيمن تصرف إليه بقوله : فللوالدين والأقربين  ومن ذكر في الآية ، وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه النفقة  ، وهو قوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو  فروي عن  ابن عباس  قال : " ما يفضل عن أهلك " ، وقال  قتادة   : " العفو الفضل "  . 
فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله ؛ وعلى هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وفي خبر آخر : خير الصدقة ما أبقت غنى ، وابدأ بمن تعول ، فهذا موافق لقوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو  
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في التبدئة بالأقرب في النفقة  ، فمنها حديث  ابن مسعود  عن النبي صلى الله عليه وسلم : اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول ؛ أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك ؛ وروى مثله ثعلبة بن زهدم  وطارق  عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد دل ذلك على معنى الآية في قوله : قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين  وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق . 
وروي عن  الحسن البصري  أن الآية في الزكاة والتطوع جميعا ، وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه  . وقال  السدي   : هي منسوخة بفرض الزكاة  . قال  أبو بكر   : هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع ، أما الفرض فلم يرد به الوالدين ولا الولد ، وإن سفلوا لقيام الدلالة عليه ، وأما التطوع فهي عامة في الجميع ، ومتى أمكننا استعمالهما مع فرض الزكاة فغير جائز الحكم بنسخها ، وكذلك حكم سائر الآيات متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخ شيء منها . وليس يمتنع أن يكون المراد به النفقة على الوالدين ، والأقربين إذا كانوا محتاجين ، وذلك إذا كان الرجل غنيا ؛ لأن قوله تعالى : قل العفو  قد دل على أن النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل  ؛ فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل عنهم شيء فليس عليه نفقة . وقد دلت الآية على معان : منها أن القليل ، والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله ؛ وينتظم  [ ص: 400 ] ذلك الصدقات من النوافل والفروض . ومنها أن الأقرب فالأقرب ، أولى بذلك ، بقوله : فللوالدين والأقربين  مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم لمراد الله بقوله : ابدأ بمن تعول : أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك وفيه الدلالة على وجوب نفقة الوالدين ، والأقربين عليه . 
فإن قيل : فينبغي أن يلزمه نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكر في الآية . قيل له : قد اقتضى ظاهرها ذلك ، وخصصنا بعضها من النفقة التي تستحقها الأقارب بدلالة ، وهم داخلون في الزكاة والتطوع . 
وحدثنا  عبد الباقي بن قانع  قال : حدثنا  معاذ بن المثنى  قال : حدثنا محمد بن بكر  قال : حدثنا  سفيان  عن مزاحم بن زفر  عن  مجاهد  عن  أبي هريرة  قال : دينار أعطيته في سبيل الله ، ودينار أعطيته مسكينا ، ودينار أعطيته في رقبة ، ودينار أنفقته على أهلك ، فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا  . وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حدثنا  عبد الباقي  قال : حدثنا محمد بن يحيى المروزي  قال : حدثنا عاصم بن علي  قال : حدثنا المسعودي  عن مزاحم بن زفر  عن  مجاهد  عن  أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه . وحدثنا  عبد الباقي  قال : حدثنا  معاذ بن المثنى  قال : حدثنا محمد بن كثير  قال : حدثنا  شعبة  عن  عدي بن ثابت  عن عبد الله بن زيد  ، عن  ابن مسعود  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله كانت له صدقة فهذه الآثار موافقة لمعنى قوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو  وقد اختلف في المراد به ، فقال  ابن عباس   وقتادة   : " الفضل عن الغنى "  . وقال  الحسن   وعطاء   : " الوسط من غير إسراف "  . وقال  مجاهد   : " أراد به الصدقة المفروضة "  . قال  أبو بكر   : إذا كان العفو ما فضل فجائز أن يريد به الزكاة المفروضة في أنها لا تجب إلا فيما فضل عن مقدار الحاجة وحصل به الغنى ، وكذلك سائر الصدقات الواجبة ، ويجوز أن يريد به الصدقة التطوع ، فيتضمن ذلك الأمر بالإنفاق على نفسه وعياله ، والأقرب فالأقرب منه ، ثم بعد ذلك ما يفضل يصرفه إلى الأجانب . ويحتج به في أن صدقة الفطر وسائر الصدقات لا تجب على الفقير  ؛ إذ كان الله تعالى إنما أمرنا بالإنفاق من العفو ، والفاضل عن الغنى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					