فصل 
[ توبة المحارب ] 
وأما اعتبار توبة المحارب  قبل القدرة عليه دون غيره فيقال : أين في نصوص الشارع هذا التفريق ؟ بل نصه على اعتبار توبة المحارب قبل القدرة عليه إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريق الأولى ; فإنه إذا دفعت توبته عنه حد حرابه مع شدة ضررها وتعديه فلأن تدفع التوبة ما دون حد الحراب بطريق الأولى والأحرى ، وقد قال الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف    } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { التائب من الذنب كمن لا ذنب له   } والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ، ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا ; فليس في شرع الله ولا قدره عقوبة تائب ألبتة . 
وفي الصحيحين من حديث  أنس  قال : { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حدا فأقمه علي ، قال : ولم يسأله عنه ، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فأعاد قوله ، قال : أليس قد صليت معنا ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك   } فهذا لما جاء تائبا بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له ، ولم يقم عليه الحد الذي اعترف به ، وهو أحد القولين في المسألة ، وهو إحدى الروايتين عن  أحمد  ، وهو الصواب . 
فإن قيل : فماعز جاء تائبا والغامدية جاءت تائبة ، وأقام عليهما الحد . 
قيل : لا ريب أنهما جاءا تائبين ، ولا ريب أن الحد أقيم عليهما ، وبهما احتج أصحاب القول الآخر ، وسألت شيخنا  عن ذلك ; فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر ، وأن التوبة مطهرة ، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة ، وأبيا إلا أن يطهرا بالحد ، فأجابهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة  على التطهير بالحد  ، { فقال في حق ماعز    : هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه   } ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز  [ ص: 61 ] تركه ، بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به : { اذهب فقد غفر الله لك   } وبين أن يقيم كما أقامه على ماعز  والغامدية  لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به ، ولذلك ردهما النبي صلى الله عليه وسلم مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما ، وهذا المسلك وسط مسلك من يقول : لا تجوز إقامته بعد التوبة ألبتة ، وبين مسلك من يقول : لا أثر للتوبة في إسقاطه ألبتة ، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					