[ أصل كل شر البدع واتباع الهوى    ] 
والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل ; لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض ، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق ، فالأول البدع ، والثاني اتباع الهوى ، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء ، وبهما كذبت الرسل ، وعصي الرب ، ودخلت النار ، وحلت العقوبات ، فالأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات ، ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى فتنته هواه ، وصاحب دنيا أعجبته دنياه . 
وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل ; فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم . 
وفي صفة الإمام  أحمد  رحمه الله : عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها ، وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون    } فبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تدفع الشبهات ، كما قال تعالى : { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر    } وقوله تعالى : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار    } . 
وفي بعض المراسيل : { إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات   } . 
فقوله تعالى : { فاستمتعتم بخلاقكم    } إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة وقوله : { وخضتم كالذي خاضوا    } إشارة إلى الشبهات وهو داء المتبدعة وأهل الأهواء والخصومات ، وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله . 
والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ، ويخوض كخوضهم ، وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ، ثم  [ ص: 107 ] حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال : { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون    } . 
فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لمن علق عليه من الحكم ، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب ، وأكده كما تقدم بضرب من الأولى ، وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد ، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه ؟ ومنه قوله تعالى : { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين    } فهذا قياس جلي ، يقول سبحانه : إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم فذكرأركان القياس  الأربعة : علة الحكم ، وهي عموم مشيئته وكمالها ، والحكم ، وهو إذهابه بهم وإتيانه بغيرهم ، والأصل ، وهو من كان من قبل ، والفرع ، وهم المخاطبون . 
ومنه قوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين    } فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به ، والفرع نفوسهم ، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة . 
ومنه قوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا    } فأخبر سبحانه أنه أرسل محمدا  صلى الله عليه وسلم إلينا كما أرسل موسى  إلى فرعون  ، وأن فرعون  عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا ، فهكذا من عصى منكم محمدا  صلى الله عليه وسلم ، وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					