وكان مع المشركين ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز بن عمير ، ولواء مع النضر بن الحارث ، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة ، كلهم من بني عبد الدار . [ ص: 107 ]
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان .
فخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، ولأهدمنه ، أو لأموتن دونه . فلما خرج خرج له حمزة بن عبد المطلب ، فضربه في ساقه فوقع على ظهره تشخب رجله دما ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم ، يريد أن يبر يمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله .
ثم خرج بعده عتبة وأخوه شيبة ، وابنه الوليد ، فدعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار عوف ومعوذ ابنا الحارث ، وعبد الله بن رواحة ، فقالوا: من أنتم؟
قالوا: رهط من الأنصار ، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة . ثم نادى مناديهم: يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة ، قم يا عبيدة ، قم يا علي" فقالوا: أكفاء كرام ، فبارز عبيدة - وهو أسن القوم - عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد بن عتبة ، فقتل حمزة شيبة ، وقتل علي الوليد ، واختلف عبيدة وعتبة ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فقتلاه ، واحتملا عبيدة ، فجاءا به إلى أصحابه (وقد قطعت رجله ، فمخها يسيل ، فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فقال: "بلى" فقال عبيدة: لو كان أبو طلحة حيا لعلم أني أحق بما قال منه حيث يقول:
ونسلمه حتى نضرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال: "إن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل" ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر ليس معه غيره . وذكر ابن إسحاق عن أشياخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر [ ص: 108 ] وفي يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية وهو مستنتل من الصف ، فطعن في صدره بالقدح ، وقال: "استو يا سواد" فقال: يا رسول الله ، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق ، فأقدني . فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: "استقد" فاعتنقه وقبل بطنه فقال: "ما حملك على هذا يا سواد" . فقال: حضر ما ترى ، فلم آمن القتل ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم .ثم عدل الصفوف ، ورجع إلى العريش يناشد ربه وما وعده من النصر ، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش خفقة ثم انتبه فقال: "يا أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع" .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم [إلى الناس] يحرضهم ونفل كل امرئ منهم ما أصاب ، وقال: "والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة" .
فقال عمير بن الحمام - وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ ، فما بيني وبين [أن أدخل] الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء! ثم قذف التمرات من يده ، وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل ، وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
ثم إن رسول الله أخذ حفنة من الحصباء ، فاستقبل بها قريشا ، ثم قال: "شاهت الوجوه" ثم نفخهم بها ، وقال لأصحابه: شدوا ، فكانت الهزيمة ، فقتل الله من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر منهم ، فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ، ورسول الله في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحا السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكأنك يا سعد تكره ما يصنع الناس" ، فقال: أجل والله يا رسول الله ، كانت [أول] وقعة أوقعها الله بالمشركين ، فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال .


