( أيحسب الإنسان أن يترك سدى   
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث  وهو ما ابتدئ به فارتبط بقوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه    ) فكأنه قيل : أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسب أن نتركه في حالة العدم . 
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعه بقوله ( أن يترك سدى    ) كما ستعلمه . 
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه    ) . 
وأصل معنى الترك : مفارقة شيء شيئا اختيارا من التارك ، ويطلق مجازا على   [ ص: 365 ] إهمال أحد شيئا وعدم عنايته بأحواله وبتعهده ، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي . 
والمراد بما يترك عليه الإنسان هنا ما يدل عليه السياق ، أي حال العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه    ) وقوله ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر    ) . 
وعدل عن بناء فعل يترك للفاعل فبني للنائب إيجازا لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق ( أن لن نجمع عظامه    ) فكأنه قال : أيحسب الإنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى . فجاء ذكر ( سدى ) هنا على طريقة الإدماج فيما سيق له الكلام ، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازيه على ما عمله في حياته الأولى . 
وفي إعادة ( أيحسب الإنسان    ) تهيئة لما سيعقبه من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله ( ألم يك نطفة    ) إلى آخر السورة . 
فقوله ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى    ) تكرير وتعداد للإنكار على الكافرين تكذيبهم بالبعث ، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدم الإنسان وأخر . 
ومعنى هذا مثل قوله تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون    ) . 
وسدى بضم السين والقصر : اسم بمعنى المهمل ويقال : سدى بفتح السين والضم أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال : إبل سدى ، وجمل سدى ، ويشتق منه فعل فيقال : أسدى إبله وأسديت إبلي ، وألفه منقلبة عن الواو . 
ولم يفسر صاحب الكشاف هذه الكلمة وكذلك الراغب  في المفردات ووقع ( سدى ) في موضع الحال من ضمير " يترك " . 
فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان ليستعملها في منافع لا تنحصر أو في ضد   [ ص: 366 ] ذلك من مفاسد جسيمة ، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين ، والطائعين لربهم كالمجرمين ، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليه المصير ، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد ، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلا الأنكاد ، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يهيمون في كل واد ، وتركهم مضربا لقول المثل " فإن الريح للعادي " ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه    ) ، أي لا نعيد خلقه ونبعثه للجزاء كما أبلغناهم ، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى    ) مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة ( أن يترك سدى    ) ، أي لا يحسب أن يترك غير مرعي بالتكليف كما تترك الإبل ، وذلك يقتضي المجازاة . وعن  الشافعي    : لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى اهـ . وقد تبين من هذا أن قوله (أن يترك سدى    ) كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					