فلما دخلت السنة الحادية والعشرون : مات  خالد بن الوليد  بحمص ،  وأوصى إلى  عمر بن الخطاب   . 
ثم كان فتح نهاوند   وأميرها  النعمان بن مقرن ،  وذلك أن أهل الري  وأصبهان  وهمذان  ونهاوند  تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي العرب الذي أقام لها دينها مات ، وإن ملكهم من بعده ملك يسير - يعني  أبا بكر   - ثم هلك ، وإن عمر  قد طال ملكه ومكثه وتأخر أمره حتى جيش إليكم الجيوش في بلادكم ، وليس بمنقطع عنكم حتى تسيروا إليهم في بلادهم فتقتلوهم ، فلما بلغ الخبر أهل الكوفة  من المسلمين كتبوا إلى عمر ،  فلما أخذ عمر  الصحيفة مشى بها إلى منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو باك وجعل ينادي : أين المسلمون ؟! أين المهاجرون والأنصار ؟! من هاهنا من المسلمين ؟! فلم يزل ينادي حتى امتلأ عليه المسجد رجالا ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد جمع لكم جموعا كثيرة  [ ص: 225 ] وأقبل بها عليكم ، ألا وإن أهل الري  وأصبهان  وأهل همذان  وأهل نهاوند  أمم مختلفة ألوانها وأديانها ، ألا وإنهم تعاقدوا وتعاهدوا على أن يسيروا إليكم فيقتلوكم ، ألا وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام ، ألا فأشيروا علي برأيكم ، فقام طلحة بن عبيد الله  فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فقد حنكتك البلايا وعجمتك التجارب ، وقد ابتليت يا أمير المؤمنين واختبرت ، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار ، وأنت يا أمير المؤمنين ميمون النقيبة ، مبارك الأمر ، فمرنا نطع ، وادعنا نجب ، واحملنا نركب ، فأثنى عمر  على طلحة  خيرا ثم جلس ، فقام  عثمان بن عفان  فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إني أرى أن تكتب إلى أهل الشام  فيسيرون إليك من شامهم ، وتكتب إلى أهل اليمن  فيسيرون من يمنهم ، وتسير أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين ، فإنك لو فعلت ذلك كنت أنت الأعز الأكبر ، وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام ، وأثنى عليه عمر  فجلس ، فقام  علي بن أبي طالب  فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإنك إن تكتب إلى أهل الشام  أن يسيروا  [ ص: 226 ] إليك من شامهم إذا تسير الروم  إلى ذراريهم فتسبيهم ، وإن تكتب إلى أهل اليمن  أن يسيروا إليك من يمنهم إذا تسير الحبشة  إلى ذراريهم فتسبيهم ، وإن سرت أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين إذا والله انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأكنافها ، وكان والله يا أمير المؤمنين من تخلف وراءك من العورات والعيالات أهم إليك مما بين يديك من العجم ، والله يا أمير المؤمنين لو أن العجم نظروا إليك عيانا إذا لقالوا : هذا عمر ،  هذا إريس العرب ، وكان والله أشد لحربهم وجرأتهم عليك ، وأما ما كرهت من مسير هؤلاء القوم فإن الله أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما كره ، وأما ما ذكرت من كثرتهم ، فإنا كنا ما نقاتل مع نبينا بالكثرة ، ولكنا نقاتل معه بالنصرة من السماء ، وأنا أرى يا أمير المؤمنين رأيا من تلقاء نفسي ، رأيي أن تكتب إلى أهل البصرة  فيفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في أهل عهودهم بأن لا ينتقضوا عليهم ، وفرقة تقيم من ورائهم في ذراريهم ، وفرقة تسير إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم ، فطبق عمر  ثم أهل مكبرا يقول : الله أكبر الله أكبر ! هذا رأي هذا رأي ! كنت أحب أن أتابع صدق  ابن أبي طالب ،  لو خرجت بنفسي لنقضت علي  [ ص: 227 ] الأرض من أقطارها ، ولو أن العجم نظروا إلي عيانا ما زالوا عن العرص حتى يقتلوني أو أقتلهم ، أشر علي يا  علي بن أبي طالب  برجل أوليه هذا الأمر ! قال : ما لي ولهم ، هم أهل العراق  وفدوا عليك ورأوك ورأيتهم وتوسمتهم وأنت أعلمنا بهم ، قال عمر :  إن شاء الله لأولين الراية غدا رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، وهو  النعمان بن مقرن المزني ،  ثم دعا عمر  السائب بن الأقرع الكندي  فقال : يا سائب ، أنت حفيظ على الغنائم بأن تقاسمها ، فإن الله أغنم هذا الجيش شيئا فلا تمنعوا أحدا حقا هو له ، ثكلتك أمك يا سائب ، وإن هذا الجيش هلك فاذهب عني في عرض الأرض فلا أنظر إليك بواحدة ، فإنك تجيئني بذكر هذا الجيش كلما رأيتك . 
ثم كتب إلى أهل الكوفة :  سلام عليكم ، أما بعد فقد استعملت عليكم  النعمان بن مقرن المزني ،  فإن قتل النعمان  فعليكم  حذيفة بن اليمان العبسي ،  فإن قتل حذيفة  فعليكم عبد الله بن قيس الأشعري أبو موسى ،  فإن قتل أبو موسى  فعليكم  جرير بن عبد الله البجلي ،  فإن قتل جرير  فعليكم المغيرة بن شعبة الثقفي ،  فإن قتل المغيرة  فعليكم  الأشعث بن قيس الكندي   . 
ثم كتب عمر  إلى  النعمان بن مقرن :  فإن في جندك رجلين عمرو بن معد يكرب المذحجي ،  وطليحة بن خويلد الأسدي ،  فأحضرهما  [ ص: 228 ] وشاورهما في الحرب ، وإياك أن توليهما عملا ، فإن كل صانع أعلم بصناعته  . 
فلما ورد عليه الكتاب سار بالناس ، فالتقى المسلمون والمشركون بنهاوند  ، فأقبل المشركون يحمون أنفسهم وخيولهم ثلاثا ، ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى والصرعى في الفريقين جميعا ، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون ولهم أنين من الجراحات ، يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . 
ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون ، وقاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى في الفريقين جميعا ، ثم حجز بينهما الليل ، ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم . 
ثم غدا  النعمان بن مقرن  يوم الجمعة - وكان رجلا قصيرا أبيض - على برذون أبيض قد أعلم بالبياض ، فجعل يأتي راية راية يحرضهم على القتال  [ ص: 229 ] ويقول : الله الله في الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم باب بين المسلمين وبين المشركين ، فإن كسر هذا الباب دخلوا على المسلمين ، يا أيها الناس إني هاز لكم الراية مرة فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها وأعنتها ، ألا وإني هاز لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم إلا موقف فرسه ومضرب رمحه ووجه مقاتله ، ألا وإني هاز لكم الثالثة ومكبر ، فكبروا الله واذكروه ، ومستنصر فاستنصروه ، ألا فحامل فاحملوا ، فقال رجل : قد سمعنا مقالتك ، وحفظنا وصيتك ، فأخبرنا بأي النهار يكون ذلك حتى يكونوا على آلة وعدة ، قال النعمان   : ليس يمنعني أن يكون ذلك من أول النهار إلا شيء شهدته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل بالقتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح ويطيب القتال وتحضر الصلاة ، وينزل النصر من السماء مع مواقيت الصلاة في الأرض  ، فمكث المسلمون ينظرون إلى الراية ويراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء هز النعمان  الراية هزة ، فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة ، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم ، وصلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما ، ثم هز النعمان  الراية ثانيا ، فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه ، ولزمت  [ ص: 230 ] الرجال منهم نحور الخيل ، وجعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان تنح عني لأوطئك بفرسي ، إني أرى وجه مقاتلي ، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله علي ، ثم هز الثالثة فكبر ، فجعل الناس يكبرون الأول فالأول الأدنى فالأدنى ، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب ، فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ثم ولوا مدبرين. 
وحمل النعمان  وحمل الناس فكان النعمان  أول قتيل قتل من المسلمين ، جاءه سهم فقتله ، فجاء أخوه معقل بن مقرن  فغطى عليه بردا له ، ثم أخذ الراية وإنها لتنضح دما من دماء من قتله بها النعمان  قبل أن يقتل ، فهزم الله المشركين ، وفتح على المسلمين ، وبايع الناس لحذيفة بن اليمان  ، فجمع السائب بن الأقرع  الغنائم كأنها الآكام ، فجاءه دهقان من دهاقينهم فقال : هل لك أن تؤمنني على دمي ودم أهل بيتي ودم كل ذي رحم لي وأدلك على كنز عظيم ؟ قال : نعم ، قال : خذوا المكاتل والمعاول فامشوا ، فمشوا معه حتى انتهى إلى مكان ، قال : احفروا ، فحفروا فإذا هم بصخرة ، قال : اقلعوها ، فقلعوا فإذا هم بسفطين من فصوص يضيء ضوؤها كأنها شهب تتلألأ ، فأعطى السائب  كل ذي حق حقه من الغنائم ، وحمل السفطين  [ ص: 231 ] حتى قدم بهما على عمر ،  فلما نظر عمر  إلى السائب  ولى باكيا ، ثم أقبل يقول : يا سائب ، ويحك ، ما وراءك ؟ ما فعلت ؟ ما فعل المسلمون ؟ قال السائب :  خير يا أمير المؤمنين ، هزم الله المشركين وفتح للمسلمين ، قال : ويحك يا سائب ، والله ما أتت ليلة بعد ليلة بات فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا ميتا مثل البارحة ، لا والله ما بت البارحة إلا تقديرا ، فما فعل  النعمان بن مقرن ؟  قال : استشهد يا أمير المؤمنين ، فبكى عمر  ثم قال : يرحم الله النعمان   - ثلاثا - ، ثم قال : مه ، قال : لا والذي أكرمك بالخلافة وساقها إليك ما قتل بعد النعمان  أحد نعرفه ، فبكى عمر  بكاء شديدا ثم قال : الضعفاء لكن الله أكرمهم بالشهادة وساقها إليهم ، أدفنتم إخوانكم ؟ لعلكم غلبتم على أجسادهم وخليتم بين لحومهم والكلاب والسباع ، أخشى أن يكونوا أصيبوا بأرض مضبعة ، قال السائب :  هون عليك يا أمير المؤمنين ، فقد أكرمهم الله بالشهادة وساقها إليهم ، ثم قال عمر :  أعطيت كل ذي حق حقه ؟ فقال : نعم ، فنفض عمر  رداءه ثم ولى باكيا ، فأخذ السائب  بطرف ردائه ثم قال : اجلس يا أمير المؤمنين ، فإن لي إليك حاجة ، قال : وما حاجتك ؟ ألم تخبرني أنك أعطيت كل ذي حق حقه ؟ قال : بلى ، قال : فما حاجتك إلي ؟ فأبدى له عن السفطين فصوصهما كأنها شهب تتلألأ ، فقال عمر :   [ ص: 232 ] ما هذا ؟ فأخبره السائب  خبر الدهقان ، فصعد فيها بصره وخفضه ثم قال : ادع لي عليا ،   وعبد الرحمن بن عوف ،   وابن مسعود ،  وعبد الله بن الأرقم ،  فلما اجتمعوا عنده قال السائب :  لم يكن لي هم إلا أن أنفلت من عمر ،  فركبت راحلة لي وأتيت الكوفة ،  فوالله ما جفت بردعة راحلتي حتى أتاني كتاب عمر :  عزمت عليك إن كنت قاعدا لا قمت ، وإن كنت قائما لا قعدت إلا على راحلتك ، ثم العجل العجل ، فقلت للرسول : هل كان في الإسلام حدث ؟ قال : لا ، قلت : فما حاجته إلي ؟ قال : لا أدري ، فركبت راحلتي حتى أتيت عمر ،  فلما نظر إلي أقبل علي  بدرته يضربني بها حتى سبقته إلى غيره وهو يقول : ما لي ولك يا ابن أم مليكة ؟! أعن ديني تفارقني أم النار توردني ؟ قلت : دعني عنك يا أمير المؤمنين ، لا تقتلني غما ، قال عمر :  فإنك لما خرجت من عندي فأويت إلى فراشي جاءني ملائكة من عند ربي في جوف الليل ، فرموني بسفطين هذين ، فإذا حملتهما فإذا نار توقد على جنبي ، فجعلت أتأخر وجعلوا يدفعونني إليهما ، حتى تعاهدت ربي في هذا إن هو تركني حتى أصبح لأقسمن على من أفاء الله عليه ، اخرج بهما من عندي لا حاجة لي بهما . . .  [ ص: 233 ] بعهما بعطية المقاتلة والذرية ، فإن لم تصب إلا عطية أحد الفريقين فبع ثم اقسمهما على من أفاء الله عليه ، والله لئن شكا المسلمون قبل أن تقسم بينهم لأجعلنك نكالا لمن بعدك ، قال السائب :  فخرجت بهما من عنده حتى قدمت الكوفة  فأخرجتهما إلى الزحمة ، فأبديت عنهما فلاح ضوءهما كأنهما شهب تتلألأ ، فجعل لا يأتي عليهما قوم إلا صفقوا تعجبا منهما ، حتى أتاني  عمرو بن حريث ،  فلما نظر إليهما استأمني بهما ، فقلت : بعطية المقاتلة والذرية ، فما كلمني حتى صفق على يدي وأوجبت له البيع ، فخرج بهما إلى الحيرة ،  فباع أحدهما بعطية المقاتلة والذرية ، واستفضل الآخر ربحا ، فكان أول شيء اعتقله بالكوفة  مالا  . 
ثم سار المغيرة  بالمسلمين إلى مدينة آذربيجان  فصالحه أهلها على ثمانمائة ألف درهم في كل سنة . 
ثم غزا  حذيفة بن اليمان  الدينور  فافتتحها عنوة ، وكانت قبل ذلك  [ ص: 234 ] فتحت لسعد  فانتقضت ، ثم غزا حذيفة  ماه سندان  فافتتحها عنوة ، وكانت قبل ذلك فتح لسعد  فانتقضت ، ثم غزا حذيفة  همذان  فافتتحها عنوة . 
ثم ولى عمر   عمار بن ياسر  الكوفة  على الصلاة والحرب ،  وعبد الله بن مسعود  على بيت المال ، وعثمان بن حنيف  على مساحة الأرض ، فشكا أهل الكوفة   عمارا  وقالوا : رجل لا يعلم ، فاستعفى عمار ،  ودعا عمر   جبير بن مطعم  خاليا ليوليه الكوفة  وقال له : لا تذكره لأحد ، فبلغ  المغيرة بن شعبة  أن عمر  قد خلا بجبير بن مطعم ،  فرجع إلى امرأته وقال لها : اذهبي إلى امرأة  جبير بن مطعم  فاعرضي عليها متاع السفر ، فأتتها فعرضت عليها فاستعجمت عليها ثم قالت : ائتيني به ، فلما استيقن المغيرة  بذلك جاء إلى عمر  وقال : بارك الله لك فيمن وليت ، وأخبره أنه ولى  جبير بن مطعم  فقال عمر : لا أدري ما أصنع ؟ فولى  المغيرة بن شعبة  الكوفة  ، فلم يزل عليها إلى أن مات عمر   . 
ثم مضى  عمرو بن العاص  إلى برقة طرابلس  ففتحها ، وصالح أهل برقة  على اثني عشر ألف دينار ، وبعث عقبة بن نافع الفهري  فافتتح  [ ص: 235 ] لعمر  زويلة  بالصلح ، وكان بين برقة  وزويلة  صلح للمسلمين . وحج عمر  بالناس ، واستخلف على المدينة   زيد بن ثابت   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					