المبحث الخامس في محل النية  محلها القلب في كل موضع ; لأن حقيقتها القصد مطلقا ، وقيل : المقارن للفعل ، وذلك عبارة عن فعل القلب . قال  البيضاوي    : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا من جلب نفع أو دفع ضر ، حالا أو مآلا ، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى ، وامتثال حكمه . 
والحاصل أن هنا أصلين : الأول : أنه لا يكفي التلفظ باللسان دونه . 
والثاني : أنه لا يشترط مع القلب التلفظ . 
أما الأول فمن فروعه : لو اختلف اللسان والقلب ، فالعبرة بما في القلب ، فلو نوى بقلبه الوضوء وبلسانه التبرد  ، صح الوضوء ، أو عكسه فلا ، وكذا لو نوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر ، أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة  ، أو عكسه صح له ما في القلب . 
ومنها : إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد  فلا تنعقد ، ولا يتعلق به كفارة ، أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره  ، هذا في الحلف بالله ، فلو جرى مثل ذلك في الإيلاء أو الطلاق أو العتاق ، لم يتعلق به شيء باطنا ، ويدين ، ولا يقبل في الظاهر لتعلق حق الغير به . 
وذكر الإمام  في الفرق : أن العادة جرت بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد ، بخلاف الطلاق والعتاق ، فدعواه فيهما تخالف الظاهر فلا يقبل . 
قال : وكذا لو اقترن باليمين ما يدل على القصد . 
وفي البحر : أن  الشافعي  نص في  البويطي  على أن من صرح بالطلاق أو الظهار أو العتاق ، ولم يكن له نية  ، لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق . 
ومنها : أن يقصد لفظ الطلاق والعتق دون معناه الشرعي  ، بل يقصد معنى له آخر ، أو يقصد ضم شيء إليه برفع حكمه ، وفيه فروع بعضها يقبل فيه ، وبعضها لا ، وكلها لا تقتضي الوقوع في نفس الأمر ; لفقد القصد القلبي . 
قال الفوراني  في الإبانة : الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه ، فإذا نواه قبل  [ ص: 31 ] فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم ، وقال نحوه  القاضي حسين  والبغوي  ، والإمام  في النهاية وغيرهم . 
وهذه أمثلته : قال : أنت طالق : ثم قال : أردت من وثاق ، ولا قرينة  ، لم يقبل في الحكم ويدين ، فإن كان قرينة ، كأن كانت مربوطة فحلها ، وقال ذلك ، قبل ظاهرا . مر بعبد له على مكاس ، فطالبه بمكسه ، فقال : إنه حر وليس بعبد ، وقصد التخليص لا العتق  لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى ، كذا في فتاوى الغزالي  ، قال الرافعي    : وهو يشير إلى أنه لا يقبل ظاهرا . 
قال في المهمات : وقياس مسألة الوثاق  أن يقبل ; لأن مطالبة المكاس قرينة ظاهرة في إرادة صرف اللفظ عن ظاهره ، ورد بأنه ليس قرينة دالة على ذلك ، وإنما نظير مسألة الوثاق ، أن يقال له : أمتك بغي ، فيقول : بل حرة  ، فهو قرينة ظاهرة على إرادة العفة لا العتق . انتهى . 
زاحمته امرأة ، فقال تأخري يا حرة ، وكانت أمته وهو لا يشعر  ، أفتى الغزالي  بأنها لا تعتق . قال الرافعي    : فإن أراده في الظاهر فيمكن أن يفرق بأنه لا يدري من يخاطب هاهنا ، وعنده أنه يخاطب غير أمته وهناك خاطب العبد باللفظ الصريح . 
وفي البسيط أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئا ، فلم يعطوه ، فقال متضجرا منهم : طلقتكم ثلاثا ، وكانت زوجته فيهم ، وهو لا يعلم    . فأفتى إمام الحرمين  بوقوع الطلاق ، قال الغزالي  وفي القلب منه شيء . 
قال الرافعي    : ولك أن تقول : ينبغي أن لا تطلق ; لأن قوله " طلقتكم " لفظ عام ، وهو يقبل الاستثناء بالنية ، كما لو حلف لا يسلم على زيد ، فسلم على قوم هو فيهم  ، واستثناه بقلبه لم يحنث ، وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم كان مقصوده غيرها . 
وقال النووي    : ما قاله الإمام  والرافعي  عجيب ، أما العجب من الرافعي  فلأن هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد ; لأنه هناك علم به واستثناه ، وهنا لم يعلم بها ولم يستثنها ، واللفظ يقتضي الجميع ، إلا ما أخرجه ولم يخرجها . وأما العجب من الإمام  فلأن الشرط قصد لفظ الطلاق بمعنى الطلاق ، ولا يكفي قصد لفظ من غير قصد معناه ، ومعلوم أن الواعظ لم يقصد معنى الطلاق ، فينبغي أن لا تطلق لذلك لما ذكره الرافعي    . 
وقال في المهمات : ونظير ذلك ما حكيناه ، عن الغزالي  في مسألة " تأخري يا حرة " أنها لا تعتق ، وقال البلقيني  فتح الله بتخريجين آخرين ، يقتضيان عدم وقوع الطلاق : أحدهما : أن يخرج ذلك على من حلف لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم وهو لا يعلم أنه فيهم  ، والمذهب أنه لا يحنث ، وهذا غير مسألة الرافعي  التي قاس عليها ، فإنه هناك علم واستثنى وهنا لم يعلم أصلا . 
الثاني : أن الطلاق لغة : الهجر ، وشرعا : حل قيد النكاح بوجه مخصوص ، ولا يمكن حمل كلام الواعظ على المشترك ; لأنه هنا متعذر ; لأن شرط حمل المشترك على معنييه أن  [ ص: 32 ] لا يتضادا ، فتعينت اللغوية ، وهو لا يفيد إيقاع الطلاق على زوجته ; بل لو صرح فقال : طلقتكم وزوجتي ، لم يقع الطلاق عليها ، كما قالوه في   : " نساء العالمين طوالق وأنت يا  فاطمة    "  من جهة أنه عطف على نسوة لم تطلق . انتهى . 
قال يا طالق وهو اسمها ; ولم يقصد الطلاق  لم تطلق ، وكذا لو كان اسمها طارقا أو طالبا وقال قصدت النداء فالتف الحرف ، قال : أنت طالق ، ثم قال : أردت إن شاء زيد أو إن دخلت الدار  دين ولم يقبل ظاهرا . 
قال : كل امرأة لي طالق ، وقال أردت غير فلانة  دين ، ولم يقبل ظاهرا إلا لقرينة ; بأن خاصمته وقالت تزوجت ، فقال ذلك ، وقال : أردت غير المخاصمة ، ولو وقع ذلك في اليمين قبل مطلقا ; كأن يحلف لا يكلم أحدا ويريد زيدا  ، أو لا يأكل طعاما ويريد شيئا معينا . قال أنت طالق ، ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها دين . 
قال : طلقتك ، ثم قال ، أردت طلبتك  دين . 
قال : أنت طالق إن كلمت زيدا ، ثم قال : أردت إن كلمته شهرا    . قال الإمام    : نص  الشافعي  أنه لا يقع الطلاق باطنا بعد الشهر ، فلو كان في الحلف بالله قبل ظاهرا أيضا . 
قال : أنت طالق ثلاثا للسنة وقال نويت تفريقها على الأقراء    ; دين ولم يقبل ظاهرا ; لأن اللفظ يقتضي وقوع الكل في الحال إلا لقرينة ، بأن كان يعتقد تحريم الجمع في قرء واحد ولو لم يقل للسنة ، ففي المنهاج أنه كما لو قال . والذي في الشرحين والمحرر : أنه لا يقبل مطلقا ولا ممن يعتقد التحريم . 
قال : لامرأته وأجنبية : إحداكما طالق ، وقال : أردت الأجنبية  قبل ، بخلاف ما لو قال : عمرة طالق ; وهو اسم امرأته ، وقال : أردت أجنبية  ، فإنه يدين ولا يقبل . 
تتمة : 
استثنى مواضع يكتفى فيها باللفظ . على رأي ضعيف : 
منها : الزكاة : ففي وجه أو قول يكفي نيتها لفظا    . واستدل بأنها تخرج من مال المرتد ولا تصح نيته ، وتجوز النيابة فيها ، ولو كانت نية القلب متعينة لوجب على المكلف بها مباشرتها لأن النيات سر العبادات والإخلاص فيها . قال : ولا يرد على ذلك الحج حيث تجري فيه النيابة وتشترط فيه نية القلب ، لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج . وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهلها كالعبد والكافر . 
ومنها : إذا لبى بحج أو عمرة ولم ينو  ، ففي قول : إنه ينعقد ويلزمه ما سمى لأنه التزمه بالتسمية ، وعلى هذا لو لبى مطلقا انعقد الإحرام مطلقا . 
ومنها إذا أحرم مطلقا  ، ففي وجه يصح صرفه إلى الحج والعمرة باللفظ ، والأصح في الكل أنه لا أثر للفظ . 
 [ ص: 33 ] وأما الأصل الثاني : وهو أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ فيه ، ففيه فروع كثيرة منها كل العبادات . 
ومنها : إذا أحيا أرضا بنية جعلها مسجدا  ، فإنها تصير مسجدا بمجرد النية ، ولا يحتاج إلى لفظ . 
ومنها : من حلف لا يسلم على زيد ، فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بالنية  ، فإنه لا يحنث ، بخلاف من حلف لا يدخل عليه ; فدخل على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ، وقصد الدخول على غيره ، فإنه يحنث في الأصح ، والفرق أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء ، ولا ينتظم أن يقول : دخلت عليكم إلا على فلان ، ويصح أن يقال : سلمت عليكم إلا على فلان . 
وخرج عن هذا الأصل صور ، بعضها على رأي ضعيف . 
منها : الإحرام ، ففي وجه أو قول ، أنه لا ينعقد بمجرد النية حتى يلبي  ، وفي آخر : يشترط التلبية أو سوق الهدي وتقليده ، وفي آخر : أن التلبية واجبة ، لا شرط للانعقاد فعليه دم ، والأصح أنها لا شرط ولا واجبة ، فينعقد الإحرام بدونها ولا يلزمه شيء . 
ومنها : لو نوى النذر أو الطلاق بقلبه ولم يتلفظ ،  لم ينعقد النذر ولا يقع الطلاق . ومنها : اشترى شاة بنية التضحية أو الإهداء  ، لم تصر كذلك على الصحيح حتى يتلفظ . ومنها : باع بألف وفي البلد نقود لا غالب فيها ، فقبل ونويا نوعا  لم يصح في الأصح حتى يبيناه لفظا ، وفي نظيره من الخلع : يصح في الأصح لأنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع . وفي نظيره من النكاح لو قال من له بنات : زوجتك بنتي ، ونويا واحدة  صح على الأصح . 
ومنها لو قال أنت طالق ، ثم قال أردت إن شاء الله تعالى  لم يقبل . قال الرافعي    : والمشهور أنه لا يدين أيضا ، بخلاف ما إذا قال : أردت إن دخلت ; أو إن شاء زيد فإنه يدين وإن لم يقبل ظاهرا ، قال : والفرق بين إن شاء الله وبين سائر صور التعليق ; أن التعليق بمشيئة الله يرفع حكم الطلاق جملة فلا بد فيه من اللفظ ، والتعليق بالدخول ونحوه لا يرفعه جملة ، بل يخصصه بحال دون حال . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					