( ومن دونهما جنتان    ( 62 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 63 ) مدهامتان   ( 64 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 65 ) فيهما عينان نضاختان   ( 66 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 67 ) فيهما فاكهة ونخل ورمان   ( 68 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 69 ) فيهن خيرات حسان   ( 70 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 71 ) حور مقصورات في الخيام   ( 72 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 73 ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان   ( 74 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 75 ) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان   ( 76 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان   ( 77 ) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام   ( 78 ) ) . 
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ، قال الله تعالى : ( ومن دونهما جنتان   ) . 
وقد تقدم في الحديث : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين  " . 
 [ ص: 507 ] وقال أبو موسى   : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين . 
وقال ابن عباس   : ( ومن دونهما جنتان   ) من دونهما في الدرج . وقال ابن زيد   : من دونهما في الفضل . 
والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه : أحدها : أنه نعت الأوليين قبل هاتين ، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال : ( ومن دونهما جنتان   ) . وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني . 
وقال هناك : ( ذواتا أفنان   ) : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ ، وقال هاهنا : ( مدهامتان   ) أي سوداوان من شدة الري . 
قال ابن عباس  في قوله : ( مدهامتان   ) قد اسودتا من الخضرة ، من شدة الري من الماء . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبو سعيد الأشج  ، حدثنا ابن فضيل  ، حدثنا عطاء بن السائب  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس   : ( مدهامتان   ) : قال : خضراوان . وروي عن  أبي أيوب الأنصاري  ،  وعبد الله بن الزبير  ،  وعبد الله بن أبي أوفى  ، وعكرمة  ،  وسعيد بن جبير  ، ومجاهد   - في إحدى الروايات -  وعطاء  ،  وعطية العوفي  ، والحسن البصري  ، ويحيى بن رافع  ،  وسفيان الثوري  ، نحو ذلك . 
وقال محمد بن كعب   : ( مدهامتان   ) : ممتلئتان من الخضرة . وقال قتادة   : خضراوان من الري ناعمتان . ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في بعض . وقال هناك : ( فيهما عينان تجريان   ) ، وقال هاهنا : ( نضاختان   ) ، وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : أي فياضتان . والجري أقوى من النضخ . 
وقال الضحاك   : ( نضاختان   ) أي ممتلئتان لا تنقطعان . 
وقال هناك : ( فيهما من كل فاكهة زوجان   ) ، وقال هاهنا : ( فيهما فاكهة ونخل ورمان   ) ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة ، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم ; ولهذا فسر قوله : ( ونخل ورمان   ) من باب عطف الخاص على العام ، كما قرره  البخاري  وغيره ، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما . 
قال عبد بن حميد   : حدثنا يحيى بن عبد الحميد  ، حدثنا حصين بن عمر  ، حدثنا مخارق  ، عن  طارق بن شهاب  ، عن  عمر بن الخطاب  قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا محمد ،  أفي الجنة فاكهة ؟ قال : " نعم ، فيها فاكهة ونخل ورمان " . قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال : " نعم وأضعاف " . قالوا : فيقضون الحوائج ؟ قال : " لا ولكنهم يعرقون ويرشحون ، فيذهب الله ما في بطونهم من أذى "  . 
 [ ص: 508 ] وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي حدثنا  الفضل بن دكين  ، حدثنا سفيان  ، عن حماد  ، عن سعيد بن جبير  ، عن ابن عباس  قال : نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم ، ومنها حللهم ، وكربها ذهب أحمر  ، وجذوعها زمرد أخضر ، وثمرها أحلى من العسل ، وألين من الزبد ، وليس له عجم  . 
وحدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل  ، حدثنا  حماد - هو ابن سلمة   - عن أبي هارون  ، عن  أبي سعيد الخدري  ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب  " . 
ثم قال : ( فيهن خيرات حسان   ) قيل : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة ، قاله قتادة   . وقيل : خيرات جمع خيرة ، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه ، قاله الجمهور . وروي مرفوعا عن أم سلمة   . وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة " الواقعة " : أن الحور العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام . ولهذا قرأ بعضهم : " فيهن خيرات " ، بالتشديد ( حسان  فبأي آلاء ربكما تكذبان   ) . 
ثم قال : ( حور مقصورات في الخيام   ) ، وهناك قال : ( فيهن قاصرات الطرف   ) ، ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، وإن كان الجميع مخدرات . 
قال ابن أبي حاتم   : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي  ، حدثنا  وكيع  ، عن سفيان  ، عن جابر  ، عن القاسم بن أبي بزة  ، عن أبي عبيدة  ، عن مسروق  ، عن عبد الله  قال : إن لكل مسلم خيرة ، ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب ، يدخل عليها كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك  ، لا مراحات ولا طماحات ، ولا بخرات ولا ذفرات ، حور عين ، كأنهن بيض مكنون  . 
وقوله : ( في الخيام   ) ، قال  البخاري   : 
حدثنا  محمد بن المثنى  ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد  ، حدثنا أبو عمران الجوني  ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس  ، عن أبيه ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :  " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة ، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين ، يطوف عليهم المؤمنون  " . 
ورواه أيضا من حديث أبي عمران  ، به . وقال : " ثلاثون ميلا " . وأخرجه مسلم  من حديث أبي عمران  ، به . ولفظه :  " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلا  [ ص: 509 ] للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن ، فلا يرى بعضهم بعضا "  . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا الحسن بن أبي الربيع  ، حدثنا عبد الرزاق  ، أخبرنا معمر  ، عن قتادة  ، أخبرني خليد العصري  ، عن  أبي الدرداء  قال : الخيمة لؤلؤة واحدة ، فيها سبعون بابا من در . 
وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة  ، حدثنا جرير  ، عن هشام  ، عن  محمد بن المثنى  ، عن ابن عباس  في قوله : ( حور مقصورات في الخيام   ) ، وقال : [ في ] خيام اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة ، أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ، عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب  . 
وقال  عبد الله بن وهب   : أخبرنا عمرو  أن دراجا أبا السمح  حدثه ، عن أبي الهيثم  ، عن أبي سعيد  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :  " أدنى أهل الجنة منزلة  الذي له ثمانون ألف خادم ، واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، كما بين الجابية وصنعاء  " . 
ورواه الترمذي  من حديث عمرو بن الحارث  ، به . 
وقوله : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان   ) : [ قد ] تقدم مثله سواء ، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله : ( كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان   ) . 
وقوله : ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان   ) : قال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : الرفرف : المحابس . وكذا قال مجاهد  ، وعكرمة  ، والحسن  ، وقتادة  ، والضحاك  ، وغيرهما : هي المحابس . وقال العلاء بن بدر  الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي . 
وقال عاصم الجحدري   : ( متكئين على رفرف خضر   ) يعني : الوسائد . وهو قول  الحسن البصري  في رواية عنه . 
وقال  أبو داود الطيالسي  ، عن شعبة  ، عن أبي بشر  ، عن سعيد بن جبير  في قوله : ( متكئين على رفرف خضر   ) قال : الرفرف : رياض الجنة . 
وقوله : ( وعبقري حسان   ) : قال ابن عباس  ، وقتادة  ، والضحاك  ،  والسدي   : العبقري : الزرابي . وقال سعيد بن جبير   : هي عتاق الزرابي ، يعني جيادها . 
وقال مجاهد   : العبقري : الديباج . 
وسئل  الحسن البصري  عن قوله : ( وعبقري حسان   ) فقال : هي بسط أهل الجنة - لا أبا لكم -  [ ص: 510 ] فاطلبوها . وعن الحسن [ البصري   ] رواية : أنها المرافق . وقال  زيد بن أسلم   : العبقري : أحمر وأصفر وأخضر . وسئل العلاء بن زيد  عن العبقري ، فقال : البسط أسفل من ذلك . وقال أبو حزرة يعقوب بن مجاهد   : العبقري : من ثياب أهل الجنة ،  لا يعرفه أحد . وقال أبو العالية   : العبقري : الطنافس المخملة ، إلى الرقة ما هي . وقال القتيبي   : كل ثوب موشى عند العرب عبقري . وقال أبو عبيدة   : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي . وقال الخليل بن أحمد   : كل شيء يسر من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعمر   : " فلم أر عبقريا يفري فريه  " . 
وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة ; فإنه قد قال هناك : ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق   ) ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى . وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان   ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات ، كما في حديث جبريل  لما سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان . فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين . 
ثم قال : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام   ) أي : هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى . 
وقال ابن عباس   : ( ذي الجلال والإكرام   ) ذي العظمة والكبرياء . 
وقال الإمام أحمد   : حدثنا موسى بن داود  ، حدثنا  عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان  ، عن عمير بن هانئ  ، عن أبي العذراء  ، عن  أبي الدرداء  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أجدوا الله يغفر لكم  " . 
وفي الحديث الآخر : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وذي السلطان ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه "  . 
وقال الحافظ أبو يعلى   : حدثنا أبو يوسف الجيزي  ، حدثنا  مؤمل بن إسماعيل  ، حدثنا حماد  ، حدثنا حميد الطويل  ، عن أنس  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام  " . 
وكذا رواه الترمذي  ، عن محمود بن غيلان  ، عن  مؤمل بن إسماعيل  ، عن حماد بن سلمة  ، به .  [ ص: 511 ] ثم قال : غلط المؤمل فيه ، وهو غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة  ، عن حميد  ، عن الحسن  ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . 
وقال الإمام أحمد   : حدثنا إبراهيم بن إسحاق  ، حدثنا  عبد الله بن المبارك  ، عن يحيى بن حسان المقدسي  ، عن ربيعة بن عامر  قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :  " ألظوا بذي الجلال والإكرام  " . 
ورواه  النسائي  من حديث  عبد الله بن المبارك  ، به . 
وقال الجوهري   : ألظ فلان بفلان : إذا لزمه . 
وقول ابن مسعود   :  " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " أي : الزموا . ويقال : الإلظاظ هو الإلحاح . 
قلت : وكلاهما قريب من الآخر - والله أعلم - وهو المداومة واللزوم والإلحاح . وفي صحيح مسلم  والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث  ، عن عائشة  قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم لا يقعد - يعني : بعد الصلاة - إلا قدر ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت ذا الجلال والإكرام   " . 
آخر تفسير سورة الرحمن ، ولله الحمد [ والمنة ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					